والإيثار في أبسط معانيه هو أن تؤثر منافع غيرك على منافعك، أن تحب لأخيك كما تحب لنفسك بل وأكثر مما تحب لنفسك، أن تعطي لأخيك مثل أو أكثر مما تعطي لنفسك، وبالتعبير المكتوب في الكتب: أن تفضل منافع الغير على منافع نفسك رغبة في رضاء الله.
ولكي نتكلم عن الإيثار لا بد أن نتكلم عن الحق سبحانه وتعالى ثم عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم العلماء. فإن كنا نحب الله فلا بد وأن يكون لهذا الحب علامات تدل عليه ودلائل تثبت وجوده، وأهم هذه الدلائل هو خلق الإيثار، فكيف يحب الله إنسان أناني لا يرى إلا نفسه ولا يعرف إلا طريق مصلحته وسبحانه وتعالى يأمر نبيه أن يوجِّه أهل محبته بقوله تعالى: "قُلِ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم". والنبي أكثر خلق الله إيثارا لأمته، فكيف لا أتَّبعه في هذا الخلق النبيل وأستطيع بعدها أن أدَّعي أنني أحب الله؟!
وقد تكلم "ابن القيم" عن علامات محبة ربنا فقال: "إن هناك علامتين أولاهما أن يسترخص العبد كل تضحية في سبيل محبوبه، والعلامة الأخرى أن يخالف هواه وإرادته ويجعل إرادته تابعة لإرادة حبيبه". وأعظم الأمثلة في الأولى، هم أهل الشهادة الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل الله. وأما الثانية فأن أتنازل عمّا أحب من ملذات الحياة لأجل من أحب وهو الله فأنفق الغالي والنفيس وأعطي لخلقِه ما يعز عليّ تقربا له سبحانه ومخالفة لهوى نفسي التي تأمرني بتحقيق كل شهواتها ولو على حساب الآخرين.
ولنا في رسول الله قدوة حسنة فها هو رسولنا الكريم يجلس على فراش زوجته السيدة عائشة ويا سعادتها عندما يجلس الرسول بجوارها، لكنها تجده يقول لها: "دعيني أقوم بين يدي ربي ساعة.. فقالت: يا رسول الله إني أحبك بجواري ولكني أحب ما تُحبُ على ما أحبُ".. هل من إيثار أكبر وأعظم من هذا؟ وسبحانه القائل: "لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ". أي أن ننفق مما نحب في سبيل من نحب.
ولقد قسّم بعض العلماء خلق الإيثار إلى مراتب ودرجات، فقد قال الإمام "ابن القيم" رحمه الله تعالى:
الأولى :أن تُؤْثِرَ الخلقَ على نفسك فيما يرضي الله ورسوله وهذه هي درجات المؤمنين من الخلق، والمحبين من خلصاء الله.
الثانية: إيثارُ رضاء الله على رضاء غيره وإن عظُمت فيه المحن، ولو أغضب الخلْق. وهي درجة الأنبياء، وأعلاها لِلرسل عليهم صلوات الله وسلامه.
ولنعلم يا أحبائي أن الإيثار رأس كل سعادة وقوام كل خلق طيب. وبدونه لن نستطيع أن نسلك إلى الله سبيلا ولا نجد من الله عونا وتثبيتا. ولو دققنا النظر لوجدنا أن عدم وجود الإيثار وحده كفيل بأن يكون سببا في هدم البيوت وتشريد الأسر وضياع الأمم وعداوة الخلق لبعضهم البعض. ولنحذر الأثرة *الأنانية- وهي حب النفس، وتفضيلها على الآخرين، فهي عكس الإيثار، وهي صفة ذميمة نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم. فما أقبح أن يتصف الإنسان بالأنانية وحب النفس، وما أجمل أن يتصف بالإيثار وحب الآخرين.ولأعطيكم صورة من الإيثار أذكر لكم ما روي عن أنه اجتمع عند "أبي الحسن الأنطاكي" أكثر من ثلاثين رجلا، ومعهم أرغفة قليلة لا تكفيهم، فقطعوا الأرغفة قطعًا صغيرة وأطفئوا المصباح، وجلسوا للأكل، فلما رُفعت السفرة، فإذا بالأرغفة كما هي لم ينقص منها شيء؛ لأن كل واحد منهم آثر أخاه بالطعام وفضله على نفسه، فلم يأكلوا جميعًا.
اللهم أجعلنا ممن نأثر على أنفسنا