عقودٌ كثيرةٌ مضت، أدبر فيها رمضانُ يتيماً حزيناً متحسراً منكسراً كما أقبل.
بات رمضان يزورنا ويغادرنا سريعاً، ربما لأنه مشفقٌ علينا، مذهولٌ لمصابنا وما حلّ بنا، مؤثراً أن لا
يُسجل علينا في صفحاته البيضاء مآسينا وانحدارنا، محافظاً على ذاكرته عطرة، ومعانيه العظيمة
والمقدسة طي سجلٍ ناصعٍ، وفي أوراقٍ يباهي بها التاريخ، ولا يمكن أن تتلفها ذاكرة فاسدة تتعمد
نسيانها. كيف لا يفعل ذلك، ونحن أمام مشهدٍ هزيل مخجلٍ، تُلصَق فيه برمضانَ كلُّ آفة، من "فوازيرَ"
ساقطةٍ، وترفيهٍ تافهٍ، وخيامٍ يشجو فيها أهلُ المجون والأهواء، وتُقترفُ فيها الفواحش والآثام من كل نوع
ولون أمام مرأى ومسمع الجميع، احتفاء بشهر رمضان الفضيل! مما يندى له جبينُ المؤمنين، ويُسخطُ الله ربَّ
العالمين .
إنه رمضان يا خلق، شهر القرآن، المعجزة الخالدة للأنام، أنزله الله فرقاناً بين الحق والباطل، وجعله
حكماً على الناس، وشرعة لهم في الحياة، هبط من السماء للتدبر وللتلاوة ولتبيان أحكام الولاية،
رابطاً الأرض بالسماء، راسماً للبشر طريق الخير والهدى والرشاد. بينما نجده الآن مقصىً عن الحياة،
محاربٌ من قبل السلطان، غايةُ شأنِ تعظيمهِ تقبيلُه بالشفاه وركنُه على الرفوف والدقُّ له بالدفوف.
ورمضان شهر الانتصارات والفتوحات، فها هي بدرٌ الكبرى شاهدة، وفتح مكة لا يمحى من الذاكرة، فيه خرَّت
عموريَّة صريعة خائرة بعد استغاثة الأسيرة بالخليفة صارخةً وامعتصماه، تلاها ملحمة عين جالوت التي
ولت فيها فلول جيش التتار الجرار لا تلوي على شيئ سوى النجاة، والسلطان قطز يلاحقها ويصرخ في جيشه
واإسلاماه، يرفع يديه إلى السماء مناجياً ربه، يا الله انصر عبدك قطز. أمَّا الآن، فالأقصى بين براثن
يهود، أسيرٌ يئن ويستغيث وما من مغيث. وبغداد آه مما أصابها وويلٌ لمن خانها بغداد، مستنقعٌ فاضت
فيه الدماء، وعلت فيها رايات الشرك والرجس والإلحاد. وأما أرض الشيشان فتشتكي إلى الله مصابها، وكل
من تخلى عنها وباعها. ناهيك عما طال عباد الله في السجون والمعتقلات لأنهم يقولون "ربنا الله"، وفوق كل
هذا ومع بزوغ كلِّ فجرٍ جديدٍ تنفجر مآسي مروعة تطوي سابقاتها، مما يوجع القلب ويدمي الكبد ويسيل العبرات.
ورمضانُ ذو الهيبة والجلال، جامعُ الأمة ومجيشُ الهمة، كان فيه المسلمون رهبان ليلٍ فرسان نهار،
محرزين فيه أعظم الإنجازات وأبهاها. أما الآن فقد بات لكلِّ حاكمٍ عميلٍ هلال، ليمعن تمزيقاً بالمسلمين
وصرفاً لهم عن وحدة جماعتهم. وبدلاً من الجدِّ والعطاء، حُوِّلَ رمضانُ إلى عطلة سنوية، أدمن الناس فيه
الكسل والنهم وانتابهم فيه الخمول وكأنه شهر النوم في النهار والخدر والسهر في توافه الأمور إلى
جوف الليل.
هكذا نلتفت لنجد رمضان شعيرةً مفرغة من أحكامها ومن تاريخها ومن ذاكرتها المضيئة بالعز والمجد
والجاه. وهذا الإفراغ مقصودٌ منه تحويل الإسلام إلى دين كهنوتي لا أثر له في الحياة المراد للأمة
عيشها. وهو ما يفسر انتقال عدوى تفريغ الإسلام من أحكامه وقدسية دلالاته إلى سائر أركان الإسلام
وفروضه المتعلقة بالجماعة والمجتمع والدولة والأمة. حيث بات الجهاد مختصاً بالنفس، وأما قتال
العدو الكافر الصائل فهو إرهابٌ مشجوب. وأما وجوب تغيير المنكر وإزالة الطغاة إنما هو إلقاء
للنفس في التهلكة. وأما إقامة الإسلام في دولة الخلافة لحماية الأمة وإقامة الدين وعمارة الدنيا،
فإنما هو ضربٌ من الخيال، بينما الإذعان للغرب والاستسلام للواقع الذي تشمئز منه قلوب وعقول الأسوياء
فهو غاية الكياسة ومنتهى الفراسة وهكذا.
أولم يئن بعد كل ذلك التاريخ المجيد الناصع لرمضان أن يعود إلى سابق عهده؟ مضيئاً الجوانب
المظلمة في حاضر الأمة القاتم، ومنيراً لها مستقبلها. ألم يئن الوقت أن يتحول رمضان إلى شهر توبة
واستغفار لا شهر جرعة مكثفة من السفه الإعلامي والسياسي والضغط الاقتصادي الخانق لإشغال الناس عما
يصلح لهم أمر دينهم ودنياهم، شهر وحدة وعزة لا فرقة وذلة، شهر نصرٍ وظفرٍ لا شهر نكباتٍ وحسرات.
وبرغم كل ما نراه من صدّ عن استعادة رمضان العز والمجد والنصر والظفر والشعيرة التي تجسد الشريعة
بأمثل معانيها فإنه سيعود لا محالة، وعندها ستذرف العبرات، بل ستسيل الدموع على الخدود طويلاً
طويلاً، وسيكبَّرُ اللهُ حقا، وستضج المآذن بالتكبير والتهليل والتسبيح والدعاء، وستعود المساجد رياضاً
للجنة ومراكزاً للعلم وجامعاتٍ للعلماء، وسيمتطي الضباط والفرسان ركوبهم من جديد لمحاربة الأعداء لا
لاعتقال الدعاة، وستكون وسائل الاتصال والدعاية والإعلام مسخرة لتوعية الأمة وبث روح الإيمان فيها
التي تنعكس طمأنينة ورضى وانكباباً على تسخير الدنيا لصالح البشرية اكتشافاً واختراعاً وتيسيراً
لعباد الله.
نعم سيعود رمضان ليكون منارةً جامعة مجسدة لمعاني الوحدة دافعة لوصل الخلق بالخالق في أسمى أشكال
الوصال وأمتنها، وستخفق راية التوحيد وحدها في كافة ربوع دار الإسلام، لأنَّ موكب الدعوة إلى الله سائرٌ
في طريقه رغم كل العراقيل والمعوقات والصعاب، ورغم كل القسوة والمعاناة والحرب الشعواء، فقد سكن
الإيمان نفوس شباب مؤمن حقاً مسلمٍ حقاً باذلاً ما بين جنبيه ابتغاء مرضات الله، كما رسخت مفاهيم النهضة
في عقولهم واستقرت في قلوبهم، ليقوم هؤلاء بالمهمة المسماة بالمستحيلة فيجعلوها ممكنة بل حتمية
التحقيق مع وعدٍ خالصٍ من الله في نصر من نَصَره وبَذَلَ المهج والأرواح في سبيله، فحملوا الرسالة واضعين
نصب أعينهم إقامة دولة الإسلام، خلافة راشدة على منهاج النبوة، لتجسد حياة تسر ساكن الأرض ويتباهى
بها ملائكة السماء.
إنها لحظة نتشوق لرؤياك فيها يا رمضان، وتتشوق أنت يقيناً للقيانا فيها، فتمكث معنا طويلاً آنذاك،
حيث يتواصل الليل بالنهار، بالعمل والدعاء والعلم والجهاد والاجتهاد، في خير ما ينفع الخلق ويرضي
الخالق، فنتعانق سويةً ونعيد لحظات التاريخ الساحرة لتفخر بنا من جديد وتعيد فتح سجلك لتدون فيه
قبسات من نور الإسلام وعظم إنجازات المسلمين.
بات رمضان يزورنا ويغادرنا سريعاً، ربما لأنه مشفقٌ علينا، مذهولٌ لمصابنا وما حلّ بنا، مؤثراً أن لا
يُسجل علينا في صفحاته البيضاء مآسينا وانحدارنا، محافظاً على ذاكرته عطرة، ومعانيه العظيمة
والمقدسة طي سجلٍ ناصعٍ، وفي أوراقٍ يباهي بها التاريخ، ولا يمكن أن تتلفها ذاكرة فاسدة تتعمد
نسيانها. كيف لا يفعل ذلك، ونحن أمام مشهدٍ هزيل مخجلٍ، تُلصَق فيه برمضانَ كلُّ آفة، من "فوازيرَ"
ساقطةٍ، وترفيهٍ تافهٍ، وخيامٍ يشجو فيها أهلُ المجون والأهواء، وتُقترفُ فيها الفواحش والآثام من كل نوع
ولون أمام مرأى ومسمع الجميع، احتفاء بشهر رمضان الفضيل! مما يندى له جبينُ المؤمنين، ويُسخطُ الله ربَّ
العالمين .
إنه رمضان يا خلق، شهر القرآن، المعجزة الخالدة للأنام، أنزله الله فرقاناً بين الحق والباطل، وجعله
حكماً على الناس، وشرعة لهم في الحياة، هبط من السماء للتدبر وللتلاوة ولتبيان أحكام الولاية،
رابطاً الأرض بالسماء، راسماً للبشر طريق الخير والهدى والرشاد. بينما نجده الآن مقصىً عن الحياة،
محاربٌ من قبل السلطان، غايةُ شأنِ تعظيمهِ تقبيلُه بالشفاه وركنُه على الرفوف والدقُّ له بالدفوف.
ورمضان شهر الانتصارات والفتوحات، فها هي بدرٌ الكبرى شاهدة، وفتح مكة لا يمحى من الذاكرة، فيه خرَّت
عموريَّة صريعة خائرة بعد استغاثة الأسيرة بالخليفة صارخةً وامعتصماه، تلاها ملحمة عين جالوت التي
ولت فيها فلول جيش التتار الجرار لا تلوي على شيئ سوى النجاة، والسلطان قطز يلاحقها ويصرخ في جيشه
واإسلاماه، يرفع يديه إلى السماء مناجياً ربه، يا الله انصر عبدك قطز. أمَّا الآن، فالأقصى بين براثن
يهود، أسيرٌ يئن ويستغيث وما من مغيث. وبغداد آه مما أصابها وويلٌ لمن خانها بغداد، مستنقعٌ فاضت
فيه الدماء، وعلت فيها رايات الشرك والرجس والإلحاد. وأما أرض الشيشان فتشتكي إلى الله مصابها، وكل
من تخلى عنها وباعها. ناهيك عما طال عباد الله في السجون والمعتقلات لأنهم يقولون "ربنا الله"، وفوق كل
هذا ومع بزوغ كلِّ فجرٍ جديدٍ تنفجر مآسي مروعة تطوي سابقاتها، مما يوجع القلب ويدمي الكبد ويسيل العبرات.
ورمضانُ ذو الهيبة والجلال، جامعُ الأمة ومجيشُ الهمة، كان فيه المسلمون رهبان ليلٍ فرسان نهار،
محرزين فيه أعظم الإنجازات وأبهاها. أما الآن فقد بات لكلِّ حاكمٍ عميلٍ هلال، ليمعن تمزيقاً بالمسلمين
وصرفاً لهم عن وحدة جماعتهم. وبدلاً من الجدِّ والعطاء، حُوِّلَ رمضانُ إلى عطلة سنوية، أدمن الناس فيه
الكسل والنهم وانتابهم فيه الخمول وكأنه شهر النوم في النهار والخدر والسهر في توافه الأمور إلى
جوف الليل.
هكذا نلتفت لنجد رمضان شعيرةً مفرغة من أحكامها ومن تاريخها ومن ذاكرتها المضيئة بالعز والمجد
والجاه. وهذا الإفراغ مقصودٌ منه تحويل الإسلام إلى دين كهنوتي لا أثر له في الحياة المراد للأمة
عيشها. وهو ما يفسر انتقال عدوى تفريغ الإسلام من أحكامه وقدسية دلالاته إلى سائر أركان الإسلام
وفروضه المتعلقة بالجماعة والمجتمع والدولة والأمة. حيث بات الجهاد مختصاً بالنفس، وأما قتال
العدو الكافر الصائل فهو إرهابٌ مشجوب. وأما وجوب تغيير المنكر وإزالة الطغاة إنما هو إلقاء
للنفس في التهلكة. وأما إقامة الإسلام في دولة الخلافة لحماية الأمة وإقامة الدين وعمارة الدنيا،
فإنما هو ضربٌ من الخيال، بينما الإذعان للغرب والاستسلام للواقع الذي تشمئز منه قلوب وعقول الأسوياء
فهو غاية الكياسة ومنتهى الفراسة وهكذا.
أولم يئن بعد كل ذلك التاريخ المجيد الناصع لرمضان أن يعود إلى سابق عهده؟ مضيئاً الجوانب
المظلمة في حاضر الأمة القاتم، ومنيراً لها مستقبلها. ألم يئن الوقت أن يتحول رمضان إلى شهر توبة
واستغفار لا شهر جرعة مكثفة من السفه الإعلامي والسياسي والضغط الاقتصادي الخانق لإشغال الناس عما
يصلح لهم أمر دينهم ودنياهم، شهر وحدة وعزة لا فرقة وذلة، شهر نصرٍ وظفرٍ لا شهر نكباتٍ وحسرات.
وبرغم كل ما نراه من صدّ عن استعادة رمضان العز والمجد والنصر والظفر والشعيرة التي تجسد الشريعة
بأمثل معانيها فإنه سيعود لا محالة، وعندها ستذرف العبرات، بل ستسيل الدموع على الخدود طويلاً
طويلاً، وسيكبَّرُ اللهُ حقا، وستضج المآذن بالتكبير والتهليل والتسبيح والدعاء، وستعود المساجد رياضاً
للجنة ومراكزاً للعلم وجامعاتٍ للعلماء، وسيمتطي الضباط والفرسان ركوبهم من جديد لمحاربة الأعداء لا
لاعتقال الدعاة، وستكون وسائل الاتصال والدعاية والإعلام مسخرة لتوعية الأمة وبث روح الإيمان فيها
التي تنعكس طمأنينة ورضى وانكباباً على تسخير الدنيا لصالح البشرية اكتشافاً واختراعاً وتيسيراً
لعباد الله.
نعم سيعود رمضان ليكون منارةً جامعة مجسدة لمعاني الوحدة دافعة لوصل الخلق بالخالق في أسمى أشكال
الوصال وأمتنها، وستخفق راية التوحيد وحدها في كافة ربوع دار الإسلام، لأنَّ موكب الدعوة إلى الله سائرٌ
في طريقه رغم كل العراقيل والمعوقات والصعاب، ورغم كل القسوة والمعاناة والحرب الشعواء، فقد سكن
الإيمان نفوس شباب مؤمن حقاً مسلمٍ حقاً باذلاً ما بين جنبيه ابتغاء مرضات الله، كما رسخت مفاهيم النهضة
في عقولهم واستقرت في قلوبهم، ليقوم هؤلاء بالمهمة المسماة بالمستحيلة فيجعلوها ممكنة بل حتمية
التحقيق مع وعدٍ خالصٍ من الله في نصر من نَصَره وبَذَلَ المهج والأرواح في سبيله، فحملوا الرسالة واضعين
نصب أعينهم إقامة دولة الإسلام، خلافة راشدة على منهاج النبوة، لتجسد حياة تسر ساكن الأرض ويتباهى
بها ملائكة السماء.
إنها لحظة نتشوق لرؤياك فيها يا رمضان، وتتشوق أنت يقيناً للقيانا فيها، فتمكث معنا طويلاً آنذاك،
حيث يتواصل الليل بالنهار، بالعمل والدعاء والعلم والجهاد والاجتهاد، في خير ما ينفع الخلق ويرضي
الخالق، فنتعانق سويةً ونعيد لحظات التاريخ الساحرة لتفخر بنا من جديد وتعيد فتح سجلك لتدون فيه
قبسات من نور الإسلام وعظم إنجازات المسلمين.