( إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم ( 23 ) يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ( 24 ) يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين ( 25 ) )
هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات - خرج مخرج الغالب - المؤمنات .
فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة ، ولا سيما التي كانت سبب النزول ، وهي عائشة بنت الصديق ، رضي الله عنهما .
وقد أجمع العلماء ، رحمهم الله ، قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به [ بعد هذا [ ص: 32 ] الذي ذكر ] في هذه الآية ، فإنه كافر; لأنه معاند للقرآن . وفي بقية أمهات المؤمنين قولان : أصحهما أنهن كهي ، والله أعلم .
وقوله تعالى : ( لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم ) كقوله : ( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا ) [ الأحزاب : 57 ] .
وقد ذهب بعضهم إلى أنها خاصة بعائشة ، فقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عبد الله بن خراش ، عن العوام ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ) [ قال ] : نزلت في عائشة خاصة .
وكذا قال [ سعيد بن جبير و ] مقاتل بن حيان ، وقد ذكره ابن جرير عن عائشة فقال :
حدثنا أحمد بن عبدة الضبي ، حدثنا أبو عوانة ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه قال : قالت عائشة : رميت بما رميت به وأنا غافلة ، فبلغني بعد ذلك . قالت : فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عندي إذ أوحي ، إليه . قالت : وكان إذا أوحي إليه أخذه كهيئة السبات ، وإنه أوحي إليه وهو جالس عندي ، ثم استوى جالسا يمسح على وجهه ، وقال : " يا عائشة أبشري " . قالت : قلت : بحمد الله لا بحمدك . فقرأ : ( إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ) ، حتى قرأ : ( أولئك مبرءون مما يقولون ) [ النور : 26 ] .
هكذا أورده ، وليس فيه أن الحكم خاص بها ، وإنما فيه أنها سبب النزول دون غيرها ، وإن كان الحكم يعمها كغيرها ، ولعله مراد ابن عباس ومن قال كقوله ، والله أعلم .
وقال الضحاك ، وأبو الجوزاء ، وسلمة بن نبيط : المراد بها أزواج النبي خاصة ، دون غيرهن من النساء .
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : ( إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ) الآية : يعني أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، رماهن أهل النفاق ، فأوجب الله لهم اللعنة والغضب ، وباؤوا بسخط من الله ، فكان ذلك في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ثم نزل بعد ذلك : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ) إلى قوله : ( فإن الله غفور رحيم ) ، فأنزل الله الجلد والتوبة ، فالتوبة تقبل ، والشهادة ترد .
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا هشيم ، أخبرنا العوام بن حوشب ، عن شيخ من بني أسد ، عن ابن عباس - قال : فسر سورة النور ، فلما أتى على هذه الآية : ( إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا ) الآية - قال : في شأن عائشة ، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي مبهمة ، وليست لهم توبة ، ثم قرأ : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ) إلى قوله : ( إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ) الآية [ النور : 4 ، 5 ] ، قال : فجعل [ ص: 33 ] لهؤلاء توبة ولم يجعل لمن قذف أولئك توبة ، قال : فهم بعض القوم أن يقوم إليه فيقبل رأسه ، من حسن ما فسر به سورة النور .
فقوله : " وهي مبهمة " ، أي : عامة في تحريم قذف كل محصنة ، ولعنته في الدنيا والآخرة .
وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هذا في عائشة ، ومن صنع مثل هذا أيضا اليوم في المسلمات ، فله ما قال الله ، عز وجل ، ولكن عائشة كانت إمام ذلك .
وقد اختار ابن جرير عمومها ، وهو الصحيح ، ويعضد العموم ما رواه ابن أبي حاتم :
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن - ابن أخي ابن وهب - حدثنا عمي ، حدثنا سليمان بن بلال ، عن ثور بن زيد ، عن أبي الغيث عن أبي هريرة; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اجتنبوا السبع الموبقات " . قيل : يا رسول الله ، وما هن؟ قال : " الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " .
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث سليمان بن بلال ، به .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عمرو بن خالد الحذاء الحراني ، حدثني أبي ، ( ح ) وحدثنا أبو شعيب الحراني ، حدثنا جدي أحمد بن أبي شعيب ، حدثنا موسى بن أعين ، عن ليث ، عن أبي إسحاق ، عن صلة بن زفر ، عن حذيفة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة " .
وقوله ( يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ) قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو يحيى الرازي ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن مطرف ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إنهم - يعني : المشركين - إذا رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الصلاة ، قالوا : تعالوا حتى نجحد . فيجحدون فيختم [ الله ] على أفواههم ، وتشهد أيديهم وأرجلهم ، ولا يكتمون الله حديثا .
وقال ابن جرير ، وابن أبي حاتم أيضا : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان يوم القيامة ، عرف الكافر بعمله ، فيجحد ويخاصم ، فيقال له : هؤلاء جيرانك يشهدون عليك . فيقول : كذبوا . فيقول : أهلك وعشيرتك . فيقول : كذبوا ، فيقول : احلفوا . فيحلفون ، ثم يصمتهم الله ، فتشهد عليهم أيديهم وألسنتهم ، ثم يدخلهم النار " .
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن أبي شيبة الكوفي ، حدثنا [ ص: 34 ] منجاب بن الحارث التميمي حدثنا أبو عامر الأسدي ، حدثنا سفيان ، عن عبيد المكتب ، عن فضيل بن عمرو الفقيمي ، عن الشعبي ، عن أنس بن مالك قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه ، ثم قال : " أتدرون مم أضحك؟ " قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : " من مجادلة العبد ربه يوم القيامة ، يقول : يا رب ، ألم تجرني من الظلم؟ فيقول : بلى . فيقول : لا أجيز علي شاهدا إلا من نفسي . فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا ، وبالكرام عليك شهودا فيختم على فيه ، ويقال لأركانه : انطقي فتنطق بعمله ، ثم يخلي بينه وبين الكلام ، فيقول : بعدا لكن وسحقا ، فعنكن كنت أناضل " .
وقد رواه مسلم والنسائي جميعا ، عن أبي بكر بن أبي النضر ، عن أبيه ، عن عبيد الله الأشجعي ، عن سفيان الثوري ، به ثم قال النسائي : لا أعلم أحدا روى هذا الحديث عن سفيان الثوري غير الأشجعي ، وهو حديث غريب ، والله أعلم . هكذا قال .
وقال قتادة : ابن آدم ، والله إن عليك لشهودا غير متهمة من بدنك ، فراقبهم واتق الله في سرك وعلانيتك ، فإنه لا يخفى عليه خافية ، والظلمة عنده ضوء والسر عنده علانية ، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن ، فليفعل ولا قوة إلا بالله .
وقوله : ( يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ) قال ابن عباس : ( دينهم ) أي : حسابهم ، وكل ما في القرآن ) دينهم ) أي : حسابهم . وكذا قال غير واحد .
ثم إن قراءة الجمهور بنصب ) الحق ) على أنه صفة لدينهم ، وقرأ مجاهد بالرفع ، على أنه نعت الجلالة . وقرأها بعض السلف في مصحف أبي بن كعب : " يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم " .
وقوله : ( ويعلمون أن الله هو الحق المبين ) أي : وعده ووعيده وحسابه هو العدل ، الذي لا جور فيه .
حكم قذف المحصنات المؤمنات
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد جاء الإسلام بما فيه سعادة البشرية في الدنيا والآخرة إن هي تمسكت به، وقامت به حق القيام، فقد جاء الإسلام بالحفاظ على خمس كليات: الدين، النفس، العقل، العرض، المال.
أما الدين فهو أولى وأهم ما جاء الإسلام بحفظه وصيانته، فشرع الحدود، وأوجب الجهاد في سبيل الله من أجل الحفاظ على الدين وصيانته.
ثم جاء بحفظ النفس في المرتبة الثانية، فأوجب القصاص درءاً للمفسدة عن الأنفس؛ وحرم قتل النفس المعصومة، وجعل ذلك كبيرة من كبائر الذنوب؛ فقال ربنا تبارك وتعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} سورة النساء(93). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكبائر أو سئل عن الكبائر، فقال: (الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين). فقال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟) قال: (قول الزور -أو قال - شهادة الزور)1.
أما العقل فقد صانه وحفظه من كل ما يفقده أو يزيله فحرم الخمر، وكل مسكر، بل جعل ما أسكر كثيره فقليله حرام؛ وقد جاء في الحديث عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لعن الله الخمر، وشاربها وساقيها وبايعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه)2. وجعل صلى الله عليه وسلم حد الشارب درءاً للمفسدة عن العقل، وحفاظاً عليه.
أما النسب فقد حرم الزنى، وأوجب فيه الحد الرادع، وأوجب العدة على النساء عند المفارقة بطلاق أو موت؛ لئلا يختلط ماء الرجل بماء آخر في رحم امرأة محافظة على الأنساب، وسمى الزنا: {فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً}.
أما العِرْض فقد حافظ عليه وصانه من كل ما يشوه صورته، ويخدش كرامته وعفته وعدالته، فنهى المسلم عن أن يتكلم في أخيه بما يؤذيه، وأوجب عليه إن رماه بفرية حد القذف ثمانين جلدة، وقبح جلًّ وعلا غيبة المسلم غاية التقبيح فقال: {وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون} الحجرات : 11. وقال في إيجاب حد القاذف: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} سورة النــور (4) (5).
أما المال فقد حافظ عليه فمنع أخذه بغير حق شرعي، وأجب على السارق حد السرقة، وهو قطع اليد؛ فقال : {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} سورة المائدة (38). وكل ذلك محافظة على المال ودرء للمفسدة عنه.
حديثنا- عباد الله- في هذه الدقائق المعدودة سيكون عن كلية واحدة من هذا الكليات التي جاء الإسلام بحفظها وصيانتها، وهي: العرض، بل عن جزئية من الجزئيات التي إذا وقع الناس فيها فقد انتهكوا هذه الكلية، وهي قذف المحصنات المؤمنات الغافلات العفيفات، ورميهن بالفاحشة إما صراحة أو كناية، وليس معنى هذا أن القذف لا يكون إلا للنساء، بل القذف يعم الرجال والنساء، ولكنه في حق النساء أظهر وأشهر.
أيها المؤمنون: إن من المقاصد العظيمة، والكليات الجامعة التي جاء الإسلام بحفظها وصيانتها: صيانة الأعراض من كل يشوه سمعتها، ويخدش عفتها، ويلوث طهرها ونقاءها؛ لذلك فقد عد النبي-صلى الله عليه وسلم- قذف المحصنات المؤمنات الغافلات من أعظم الكبائر؛ كما في الصحيحين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (اجتنبوا السبع الموبقات) فذكر منها: (قذف المحصنات الغافلات المؤمنات).
بل إن الله -جل وعلا- أوجب على من قذف مؤمنة أو مؤمناً بالزنا، سواء كان قذفاً صريحاً أو تعريضاً العقوبة الدنيوية والأخروية، أما في الدنيا فقد عوقب من قذفاً مسلماً أو مسلمة عفيفا أو عفيفة محصناً أو محصنة بالزنا بثلاث عقوبات:
أولاً: الجلد ثمانين جلدة، ثانياً: عدم قبول شهادته، بل ردها مطلقاً، فيصير مخروم العدالة. ثالثاً: الحكم عليه بالفسق؛ فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} سورة النــور(4). وذلك إذا لم يأتِ بأربعة شهداء عدول على ما قال.
وليس قذف المؤمنات المحصنات الغافلات بالزنا خاصاً بالمرأة الأجنبية، أو الرجل الأجنبي، بل يدخل في ذلك قذف الرجل لزوجته، والزوجة لزجها، فإن حصل ذلك فإنه يجب على من قذف الآخر أن يأتي بأربعة شهداء، فإن لم يأت بالشهود، ولم يقر المقذوف فإنهما يتلاعنان، وإذا تلاعنا فإنه يفرق بينهما تفريقاً مؤبداً، وإذا جاء ولد فإنه ينسب لأمه، وليس للأب لأنه نفاه.
وأما في الآخرة فقد أوجب اللعنة والطرد من رحمة الله على القاذف بغير بينة ولا شهود، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ* يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} سورة النــور(23)(24). فقد ذكر الله في الآية الكريمة فظاعة أمر هذه الجريمة، وشنع على من وقع فيها، وشرح عظيم خطرها، وشديد وعيدها، وأي وعيد أشد من اللعنة في الدنيا والآخرة، وهو الطرد من رحمة الله، واستحقاق العذاب العظيم، وتقرير ذنبه بشهادة جوارحه عليه بما يخزيه، ويقطع حجته، ويسد عليه باب التنصل من ذنبه أمام الأشهاد يوم القيامة".3
كل هذه الزواجر وغيرها من الحفاظ على الأعراض، وصون المجتمع المسلم من الشائعات التي تلوث سمعته، وتشوه صورته، من قبل الحاقدين والفاسدين، والذين يحبون أن تشيع الفاحشة في المجتمع المسلم.
اللهم حكم فينا شريعتك، إنك أنت القوي العزيز.
الخطبة الثانية:
الحمد الملك الحق المبين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: إن أول من يدخل في هذا الذنب الكبير، والجرم الخطير من وقع أو يقع في نساء النبي-صلى الله عليه وسلم- يقول ابن كثير -رحمه الله- : "أمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة، ولاسيما التي كانت سبب النزول، وهي عائشة بنت الصديق، -رضي الله عنهما-. وقد أجمع العلماء -رحمهم الله- قاطبة على أن مَنْ سَبَّها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية، فإنه كافر؛ لأنه معاند للقرآن، وفي بقية أمهات المؤمنين قولان: أصحهما أنهن كهي، -والله أعلم-4. ثم يأتي بعد ذلك بقية المؤمنات الطاهرات العفيفات المحصنات.
والقذف -عباد الله- هو أن يقول لامرأة أجنبية حرة عفيفة مسلمة: يا زانية، أو يا باغية، أو يا قحبة، أو يقول لزوجها: يا زوج القحبة، أو يقول لولدها: يا ولد الزانية، أو يا ابن القحبة، أو يقول لبنتها يا بنت الزانية، أو يا بنت القحبة، فإن القحبة عبارة عن الزانية، فإذا قال ذلك أحد من رجل أو امرأة كمن قال لرجل: يا زاني أو لصبي حر يا علق أو يا منكوح وجب عليه الحد ثمانين جلدة إلا أن يقيم بينة بذلك، والبينة كما قال الله: {أربعة شهداء} يشهدون على صدقه فيما قذف به تلك المرأة أو ذاك الرجل فإن لم يقم بينة جلد إذا طالبته بذلك التي قذفها أو إذا طالبه بذلك الذي قذفه..
أيها الناس: إن مما ينبغي معرفته وفهمه أنه لا فرق -عباد الله- بين أن يقذف جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات متعددة، أو قذف واحداً مرات متعددة؛ لأن الله –تعالى- يقول: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وأولئك هُمُ الفاسقون} سورة النور (4). ولم يفرق بين قذف واحد أو جماعة، ولأن الذين شهدوا على المغيرة قذفوا امرأة، فلم يحدهم عمر إلا حداً واحداً، ولأنه قذف واحد فلم يجب إلا حد واحد كما لو قذف واحداً، ولأن الحد إنما وجب بإدخال المعرة على المقذوف بقذفه وبحد واحد يظهر كذب هذا القاذف، وتزول المعرة، فوجب أن يكتفي به بخلاف ما إذا قذف كل واحد قذفاً منفرداً، فإن كذبه في قذف لا يلزم منه كذبه في آخر، ولا تزول المعرة عن أحد المقذوفين بحده للآخر فإذا ثبت هذا، فإنهم إن طلبوه جملة حد لهم، وإن طلبه واحد أقيم الحد؛ لأن الحق ثابت لهم على سبيل البدل، فأيهم طالب به استوفى، وسقط فلم يكن لغيره الطلب به كحق المرأة على أوليائها في تزويجها، إذا قام به واحد سقط عن الباقين، وإن أسقطه أحدهم فلغيره المطالبة به، واستيفاؤه لأن المعرة لم تزل عنه بعفو صاحبه، وليس للعافي الطلب به، لأنه قد أسقط حقه.
قال في أضواء البيان: "وهذه المسائل لم نعلم فيها نصاً من كتاب ولا سنة، والذي يظهر لنا فيها -والله تعالى أعلم- أن من قذف جماعة بكلمة واحدة فعليه حد واحد؛ لأنه يظهر به كذبه على الجميع وتزول به المعرة عن الجميع، ويحصل شفاء الغيظ بحده للجميع"5.
أيها الناس: ليحفظ المسلم لسانه من الوقع في عرض أخيه، فإن كثيراً من الجهال -اليوم- واقعون في هذا الكلام الفاحش المترتبة عليه العقوبة في الدنيا والآخرة؛ ولهذا ثبت في الصحيحين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب).
وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: (ثكلتك أمك يا معاذ وهل يَكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم؟)6.
وفي الحديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)7. وقال الله -تبارك وتعالى- في كتابه العزيز: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} سورة ق(18). وقال عقبة بن عامر-رضي الله عنه-: يا رسول الله ما النجاة؟ قال : (أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك)8. وقانا الله وإياكم شر ألسنتنا بمنه وكرمه إنه جواد كريم9.
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} سورة الأحزاب(56). اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آله محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. وارض اللهم عن صحابته الكرام الأئمة الأعلام، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.